muhmedhussein مهندس فعال
عدد الرسائل : 50 العمر : 41 تاريخ التسجيل : 09/10/2008
| موضوع: صمت السنين الخمس (قصة قصيرة) السبت 06 ديسمبر 2008, 2:30 am | |
| صـــمت السنين .... الخمسمع السائرين سرت، ومع الحافرين حفرت.. وأخيراً نثرت قبضة من تراب جاف علي قبر (تاج السر)، لقد مات وارتاح... هكذا يهمس احدهم ونحن نتهاوى عائدين من القبور ويعقب رجل آخر:
– صدقت والله... لقد مات وارتاح من عذاب الدنيا وهم القلب.
ونمضغ الصمت بعد ذلك وفي القلوب شئ كالحزن وفي الأحداق شئ كالدمع اجل مات (تاج السر)، أخيراً مات وارتاح... ولكن ذكراه لم تمت ستظل شيئا ماثلا في قلب كل من راءه وعاش ماساته وان لـ(تاج السر) مأساة... مأساة من نوع غريب وربما كانت الأولى من نوعها في العالم كله، خمس أعوام من الصمت الأليم قضاها وعيناه تبحثان في المتاهات البعيدة لا يكلم أحداً ولا يرد علي احد، كان يعيش في عزلة نفسية فاجعة كل من يراه يتبادر إلي ذهنه صورة رجل مخبول اخرس ولم يكن (تاج السر) مخبولا ولكنه كان اخرس. لم يأت إلي الدنيا بهذه الصورة الأسيفة ولكنه أتى للوجود طفلا حلو التقاطيع ضاحك العينين وتكلم.. نعم تكلم قبل السن المحددة للأطفال كي يتكلموا وظل ينطق بعد ذلك طيلة أعوامه حتى صمت قبل سنين خمس أخرسته المأساة الأليمة.
– هل مات أبوه؟
اجل مات أبوه وحزن عليه وبكاه ولكنه لم يصمت، لم يصل حزنه علي أبيه هذه الدرجة من الانفعال والدهشة التي تلجم اللسان وتزيغ البصر. لقد مرض والده وظل طريح الفراش زمنا حتى أصبح موته شيئا قريبا مألوفاً متوقعاً بل غير المتوقع ألا يموت، وعندما مات لم يندهش (تاج السر) ولكنه بكاه وحزن عليه ثم مضي يعيش دوره في الحياة بين الأسرة وأقرانه.
وسمع (تاج السر) أكثر من مرة إن وجهه (صورة مطابقة) لوجه أبيه إنه الوحيد بين اخوانه الذي يشبه اباه، وراوده حلم طارئ متحمس لماذا لا يتزوج ؟ لم يكن متحمسا للزواج علي أي معني من المعاني التي تدفع إليه غالبا ولكن رغبة ملحة في تنفيذ حلمه المتحمس هي التي دفعته، كان يريد ان يتزوج كي ينجب طفلا اجل انه يريد طفلا وسيسميه (معروف) باسم والده المرحوم يجب ان يكون في العائلة انسان حي يجب ان يظل اسم (معروف) خالدا يشير ابدا الي ذلك الرجل الطيب الذي ذهب.
و(تاج السر) رجل ايجابي لا يتردد اذا عزم علي شئ فعله، ولم يمض بعد ذلك وقت طويل حتي عثر علي نصفه الثاني... عثر عليها جميلة كل شئ فيها مكتمل واعجب بها لانها ستعطيه ابنا مكتملاً ستعطيه (معروف) الذي سيخلد اسم الر جل الراحل، كان لا يلقاها علي السرير إلاّ بعد ان يقرا اية الكرسي وكثيرا من الادعية الدينية وانتفخت بطن المراة الجميلة لقد شحنتها الاية الكريمة بجنين ولكن ما نوعه...أذكر هو ام انثي؟ وانقلب دعاء (تاج السر) الي الرب ان يجعل ما في بطنها ولداً.
وجاءها المخاض واخرجت ولداً ولكن... بلا روح؛ لقد مات حين الوضع وحزن الرجل بيد انه لم ييأس، وشحنت الاية الكريمة بطن الزوجة مرة اخري كان (تاج السر) يخشي ان تتكرر الماساة الاليمة ان تضع ولدا ويموت حين الوضع.
قالت له حماته ذات صباح:
– الداية.... بسرعة.
فاختلج قلبه وتمتم لسانه:
يارب... لا اسالك شيئا في الحياة غير ان يكون ما في بطن زوجتي ولداً ... حياً.
وانطلق يجلب الداية وجاء بها، وباسرع مما كان يتصور خرج ما في بطن زوجته ولكن... اتته تقول له:
– تعيش في عزك.
صرخ:
– بنت؟
وجاءه الرد:
– اجمل من القمر.
فصمت... وقلبه يلعن القمر، ما بال القدر لا يلتفت اليه ولا يجيب دعاءه؟
وصبر.... صبرا طويلا هذه المرة، وتكررت عملية الشحن والان مرحي... مرحي ان (معروفا) يطل علي الدنيا وانتشي (تاج السر) وخفق قلبه بين الحنايا، ان القدر لم يظلمه وانما اجل قدوم هذا الطفل ليجمع في قلب (تاج السر) فرحة الفرج بعد طول ترقب وانتظار. وشبّ (معروف) محاطا بعطف وحنان مضاعفين وقرر الاب السعيد ان يكرس حياته ليجعل من (معروف) شابا مرموق المكانة.
رباه صغيرا يختلف الي المدرسة الاولية ومنحه عطفه وهو يتدرج في المدرسة الوسطي وشجعه وأولاه ثقتة وهو يتقدم اقرانه في المرحلة الثانوية وما يخيب (معروف) لابيه املاً، كان شابا مثالياً قوي الجسم والارادة جذاب الشخصية لا يُعادي احداً من زملائه بل يحب الجميع، وعندما اذيعت اسماء المقبولين بجامعة الخرطوم كان اسم (معروف) في المقدمة ولم تسع الارض (تاج السر) من شدة فرحه ووزع الهدايا ولم لا...؟ ومن اجل (معروف) عاش (تاج السر) أفلا يفرح اذن وابنه يجلس في ثقة واصرار علي مدرجات كلية الطب بجامعة الخرطوم؟.
وتمضي الايام بعد ذلك هنيئة ضاحكة ومن الخرطوم جاءته رسالة تقول ان (معروف) سيصل الي المدينة بمشترك الأربعاء في اجازته السنوية، واعد الرجل كل ما من شأنه ان يدفق السعادة والانشراح في نفس الابن القادم من الجامعة. واشرقت شمس الاربعاء وتلفن الرجل الي ادارة السكة حديد يسأل عن موعد وصول القطار:
– الساعة السابعة ياسيد (تاج السر).
– اشكرك ياعزيزي.
– واسقط السماعة من يده واحس كان شيئا يضغط علي قلبه ويكرب نفسه انه خائف.. اجل انه يخاف ان يحدث مكروه لعزيزه القادم بالقطار في السابعة من هذا المساء انه غير مطمئن علي كل حال، وبعد لحظات تاكد له ان اكتئابه ليس من الخوف علي ولده ولكن شيئا مخيفا قد حدث بالفعل؛ لقد مات اخوه (آدم) فجاة اثر سكته قلبية:
– لماذا يموت هذا المخلوق في هذا اليوم بالذات؟
ثم عاد (تاج السر) واستغفر من شطحة افكاره وتجديف لسانه لقد كان يود ان يفرح بلقاء (معروف) ولكن ارادة الله اقتضت ان تنغض عليه فرحته فيصبر اذن كما عودته الحياة ابدا علي الصبر.
وانهمك في مأتم اخيه يتقبل العزاء وفي غمرة الحزن وهم الفاجعة نسي موعد قدوم الابن وعندما سقط بصره علي ساعته وجد انها قد تخطت السابعة بنصف ساعة وتسلل من بين الجمع تاركاً اخويه يتقبلان العزاء ان شوقه لابنه مضاعف اكثر مما اشتاق من قبل انه بالتاكيد – فيما حدث (تاج السر) نفسه – قد وصل المحطة واستغل عربة الحي للبيت ولا احد بالبيت يجب ان يسرع اذن الي البيت قبله واسرع في مشيته، وفي تقاطع شارعين اوشكت عربة كبيرة ان تصدمه لولا ان توقف وتراجع في ربكه حتي كاد يسقط وقبل ان يعتدل ويتمالك نفسه راي تحت العجلات جسدا ينزف الدم من راسه وعينيه...
– يا إلهي لقد اوشكت ان اكون انا الذي تحت العجلات.
هكذا همهم دون وعي ثم تحسس راسه واقترب من الجسد الذي ينزف دماً وقبل ان ينزل السائق من مقعد القيادة كان (تاج السر) قد انحني علي الجسد وحدق فيه... حدق حتي كادت عيناه ان تخرجا من محجريهما وفجأه ... انكفأ (تاج السر) يدفن وجهه بالدم النازف من الجسد، الجسد الملقي تحت العجلات وصاح صيحة مرعبة...
– (معروف).
وكانت تلك اخر كلمة يتفوه بها وبعدها... كان صمت السنين الخمس.
واليوم... مع السائرين سرت ومع الحافرين حفرت واخيراً... نثرت قبضة تراب جاف علي قبر (تاج السر)، لقد سئم حياة كل من بها ناطقون وذهب الي عالم كل من فيه صامت اخرس. | |
|